تجريدة حبيب :
التجريدة والجردة في اللغة الدارجة تعني النجدة والحملة ، أما التجريدة في الفصحى فهي من التجريد وهو القشر والنزع والتعرية ، والجردة بمعنى البرذعة الخلقة والخرقة البالية والصواب أن يقال ( جريدة ) لأن الجريدة تأتي بمعنى الجماعة من الخيل التي ليس بين فرسانها ماش على رجليه .
هذا وتجريدة حبيب من أبرز القصص والحوادث التي يحفل بها تراثنا الشعبي فلقد تواترت أخبارها وتناقلت وقائعها السنة الرواة خلفاً عن سلف إذ هي تسجل وقائع صراع مرير استمر سنين طويلة بين قبيلتي كبيرتين هما ( الحرابى ، وأولاد علي ) أسفرت عن هزيمة الأخيرة وجلائها إلى أقصى حدود ليبيا الشرقية ، بعد أن بسطت نفوذها على جزء كبير من إقليم برقة الشرقي ، وسيطرت عليه فترة غير قصيرة من الزمن .
وقد أضيفت ( التجريدة ) إلى ( حبيب ) وهو اسم بطل القصة والذي كان المنقذ لقومه وعشيرته من حياة القهر والهوان وعيش المذلة والصغار .
ولتجريدة حبيب رواية راسخة لدى أهل البادية بصفة خاصة وأن الدارس لتراثنا الشعبي ليجد فيها مادة خصيبة تسترعي نظره وتغريه بمواصلة البحث والاستقصاء ، وسيلاحظ أن تجريدة حبيب في موضوعها وعناصرها تستمد أكثر حوادثها من الواقع إذ هي خالية من الإغراق في الخيالات المجنحة ، التي هي حلق بها القصاصون في قصص ( أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة ) وان كان يعتريها بعض عناصر المبالغة وشيء من الخلط والتشويش .
ويرجح وقوع التجريدة حسب المقارنة والاستنتاج أنها حدثت في الربع الأول من القرن الثاني عشر للهجرة .. أوائل القرن الثامن عشر للميلاد أي في أواخر العهد العثماني وقبل بداية العهد القرمانلي الذي لم يتوطد في برقة إلا في سنة 1133هـ ، 1720 م وذلك بعد أن تولى أحمد باشا الحكم بتسع سنين .
هذا وقبل أن نسرد أحداث ( تجريدة حبيب ) فأننا نمهد لها بنبذة عن ( الحرابى ، وأولاد علي ) فنقول : ينتسب كل من الحرابى وأولاد علي إلى السعادى ، نسبة إلى سعدة الزناتية بنت الزناتي خليفة التي تزوجها ( الذئب أبو الليل ) ، فولدت له أبناؤه ( برغوث وعقَّار وسلام ) وهؤلاء هم أصول قبائل السعادى التي تتفرع إلى كثير من البطون والعشائر ( فالحرابى ينتسبون إلى حرب أو محارب ) و( أولاد علي ينتسبون إلى غلي ) وهما أولاد العقَّار بن الذئب أبي الليل زعيم من رؤوس بني سليم الذين استوطنوا مابين سرت غرباً وحدود الإسكندرية شرقاً واستوطن إخوانهم بني هلال ناحية الغرب من النواحي طرابلس وتونس وهذا ما أثبتته السير وانساب القبائل ، وهو يدل على ان قبائل ( السعادى ) في برقة تنتمي ، إلى بني سليم دون سواهم والواقع أن كثيراً منها ينتمي إلى ( الهلاليين ) أي من قبائل ( هلال بن عامر بن صعصعة ) وهذا له ما يبرره من عدة وجوه .. الأول : أن القصص والأشعار التي بتناقلها أفراد هذه القبائل تدور كلها حول ( أبي زيد الهلالي ) وأبناء أخته ( شيحة ) مثل ( مرعي وذياب ويحيى ويونس وغانم ) وغيرهم من أبطال القصص الهلالية المعروفة .. والثاني هو أن جماعات من بني هلال قد استوطنت إقليم برقة أيام العبيديين ولها وقائع وحروب مع بعض القبائل المقيمة ببرقة من ( لواته وزناته ومزاته ) .حيث بقي ذكر أن فروع هاتين القبيلتين بصفة عامة ليست كلها من سلالة بني هلال وبني سليم بل تضم سلالات بربرية مثل لواته ومزاته وزناته ، التي سماها ابن خلدون والتي كانت تعمر هذه البقاع .
نعود إلى قصة التجريدة .. فالحروب بين الحرابى وأولاد علي في تلك الفترة ترجع كما يذكر بعض الباحثين إلى ثارات قديمة نشأت بين الفريقين وقد انتصر ( الحرابى ) على أولاد علي وطردوهم من الجبل الأخضر وأجلوهم إلى بقاع مقفرة ومناطق مجدبة في أكثر السنين ، فأخذ هولاء يعدون العدة ويرتقبون الفرصة التي تمكنهم من استرجاع البقاع التي طردوا منها ، والتي تجود بالخصب والنماء فلما تمت لهم الغلبة توغلوا حتى ( رأس التراب ) الواقع غربي ( شحات ) بنحو عشرة كيلومترات أي أنهم بسطوا نفوذهم على ما يقرب من نصف مساحة الجبل الأخضر زيادة على المناطق الشرقية الشاسعة .
وما فتئ ( الحرابى ) يقاومون سيطرة ( أولاد علي ) ويتربصون بهم الدوائر ، وتقوم بين الفريقين مناوشات ومعارك وكثيراً ما يضطر ( الحرابى ) إلى الرضوخ والاستسلام بسبب تفرقهم ووقوف بعض قبائلهم موقف الحياد ثم ظهر رجل اجتمعت له صفات الزعامة بين قومه وعشيرته ، ذلك هو الشيخ ( عبد المولى الأبح ) الذي تبوأ مكان الصدارة وأصبح صاحب الكلمة المسموعة والرأي المتبع عند أكثر قبائل ( الحرابى ) ومن أبناء ( الشيخ عبد المولى ) كان حبيب بطل التجريدة .
هذا وتجئ البوادر الأولى ( لتجريدة حبيب ) بذكر واقعة اقتحم فيها الحرابى منتجعاً لأولاد علي بالجبل الأخضر قبيل الفجر ذات يوم وقتلوا كل من سدت في وجهة المنافذ للهرب من الرجال وغنموا ماشيتهم ولم يبقى بالمنتجع غير عدد من الأطفال تبنى الشيخ ( عبد المولى الأبح ) أحدهم واسمه ( النعيعيس ) وجعله كواحد من أبنائه .
نشأ النعيعيس هذا ، وشب في بيت ( الشيخ عبد المولى ) لكنه لم ينس ما حل بقومه وأهله من تشريد ، إذ انه كان في سن المراهقة عند غارة ( الحرابى ) على منتجع قبيلته ، وأضمر فـي نفسه الانتقام وانتهز فرصة في يوم خلا فيه بأحد أبناء ( الشيخ عبد المولى ) فقتلـه ، ووارى جثته في التراب وأخفى لباسه الملطخ بالدماء داخل برذعة حمار ، ولم يخطر ببال الشيخ عبد المولى ولا احد من عشيرته أن النعيعيس يقتل أخاه ، وفقد الأمل في العثور على ابن الشيـخ عبد المولى فقد يكون ضل طريق عودته إلى المنتجع وتاه وسط الشعاب والوديان فافترســه ذئب أو ضبع غير أن الجريمة المدبرة ما لبثت أن ظهرت معالمها واضحة للعيان فقد بـرزت ملابس القتيل من خرق في البرذعة صدفة من غير قصد ، وعرف الشيخ عبد المولــى أن النعيعيس هو قاتل ابنه ولكنه لم يقتص منه وأبت له شهامته أن يسفك له دماً فقد تبناه وعـاش فيحمايته ، وإنما طلب منه أن يرحل بعيداً عن بيته ودياره ، حتى لا يتعرض للقتل من قبـل أحد أخوة القتيل أو من أبناء قبيلته .
غادر ( النعيعيس ) بيت ( الشيخ عبد المولى الأبح ) ونفسه لا تزال تحتدم غيظاً وحنقاً على الشيخ عبد المولى وعشيرته ، لم يهدئ من ثائرتها قتله لابن الشيخ عبد المولى ولا شهامة أب القتيل في الصفح عنه وصمم في هذه المرة على الانتقام من الشيخ عبد المولى نفسه ، إذ هو أكبر رؤوس ( الحرابى ) وصاحب الرأي والتدبير وبدأ في تنفيذ خطته بالاتفاق مع جماعة من شيوخ ( أولاد علي ) فوشوا بالشيخ عبد المولى عند حاكم درنة في ذلك الوقت ( الذي لم يذكر رواة التجريدة اسمه ولا أصله ويجوز أن يكون تركياً من بقايا حكام العهد العثماني الأول ) وهو بدوره استدعى الشيخ عبد المولى وقبض عليه وسجنه مكبلاً بالحديد بجوار سور المدينة ، وتقول الرواية أن ولدين من أبناء الشيخ عبد المولى تمكنا من إنقاذ والدهما إذ حفرا نفقاً سرياً نفذا منه إلى السجن ووجدا اباهما في ثقل من الحديد لم يستطيعا نزعه ، فاحضرا ثلاثة من الخيل وحملا أباهما على احديهما ووضعا أحد ثقلي الحديد على حصان عن يمينه والثقل الأخر على حصان عن يساره وتسلل الجميع لائذين بالفرار .
غير أن نبأ فرارهم انكشف قد انكشف ، وخرج القوم وفي مقدمتهم ( النعيعيس ) يقتفون أثرهم ، وما لبثوا أن لاحت لهم ثلاثة من الخيل ، تجد في سيرها غربي مدينة درنه فلحقوا بهم مسرعين .
يتبع .......